عازف البيانو : دراما الموسيقي والحرب

pianist-posterقصة فيلم “عازف البيانو” مقتبسة من كتاب “موت المدينة” لعازف البيانو البولندي اليهودي “فلاديسلاف شبيلمان” حول تجربته إثناء الاحتلال النازي لبلاده، و ماتعرض له هو و أسرته و يهود بولندا على يد النازيين من جرائم و ما عاشوه من معاناة أودت بحياة الكثير من البولنديين من يهود ومسيحيين في فترة الإحتلال النازي لبولندا.

كان شبيلمان يعيش مع اسرته بمدينة وارسو خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كان يعمل كعازف في الإذاعة البولندية، و كان من عشاق الموسيقار فردريك شوبان، لهذا تضمن الفيلم العديد من مقطوعات الموسيقار البولندي شوبان.

ينجو شبيلمان من مصير الترحيل إلى معسكرات الاشغال الشاقة، أي الابادة، بفضل ضابط الامن اليهودي المتعاون مع سلطات الاحتلال النازي، إذ يقوم بسحبه من الطابور قبل ركوبه مع افراد اسرته في القطار. يصبح شبيلمان عامل سخرة لدي القوات النازية، و يشهد في تلك الاثناء الترتيبات لثورة البولنديين ضد الاحتلال النازي، قبل أن يغادر هاربا ً حيث ينجح في الاختباء بمساعدة “أندريك وزوجته جانينا” و هما من أصدقائه البولنديين المسيحيين، اللذان يقبض عليهما الشرطة النازية بعد انتفاضة وارسو، و يذهب “شبيلمان” إلى عنوان للجوء إليه في حالات الطوارئ، ليجد أن “دورتا” الفتاة التي كان معجبًا بها منذ سنوات، هي زوجة الرجل الذي أرسل إليه.

بعد ذلك ظل شبيلمان يتنقل بين مخابئ اعدها اصدقائه قبل أن يلقى القبض عليهم إثناء انتفاضة وارسو الكبري، فينتهي به الحال وحيدا ً مختبئا ً في أحد المباني المهدمة في وراسو المحترقة بالكامل، و هناك التقى هوسنفيلد الضابط النازي الذي كان من بين من ساعدوه للبقاء على قيد الحياة، إذ حملت إجابته عن مهنته الخلاص من الموت، فالضابط النازي يُعجب بعزف شبيلمان، حتى أنه وعده بالإستماع اليه عند عودة الأوضاع إلى سابق عهدها، بعودة فالديك للعزف في إذاعة وارسو، وهو الأمر الذي لم يحدث.

في المشهد الأخير نرى شبيلمان يعزف ضمن اوركسترا معزوفة لشوبان في حفل كبير وباذخ. ثم نرى على الشاشة معلومة توثيقية تقول بأن “فلاديسلاف شبيلمان” قد واصل حياته اليومية في وارسو حتى وفاته في العام 2000 عن عمر يبلغ آنذاك 88 سنة، أما النقيب الألماني هوزنفيلد فقد توفي في معسكر بالاتحاد السوفييتي لأسرى الحرب عام 1952.

الفيلم من اخراج الفرنسي – البولندي “رومان بولانسكي”، وأنتاج العام 2002، و تم تصوير الفيلم في بولندا و بريطانيا و ألمانيا، كما أن أطلال البنايات التى ظهرت في الفيلم تعود لفترة الحرب العالمية الثانية، و الموسيقي التصويرية لفوزسيتش كيلار .

تحصل الفيلم على العديد من جوائز الاوسكار عن فئة أفضل ممثل – أدريان برودي، و فئة أفضل مخرج – رومان بولانسكي، فئة أفضل سيناريو مقتبس – رونالد هاروود، كما نال الفيلم العديد من الجوائز في المهرجانات العالمية كجائزة البافتا، و السعفة الذهبية، و السيزر.

كان فيلم “عازف البيانو” التجربة الاهم في المسيرة الفنية للممثل أدريان برودي، إذ شكل نقلة كبيرة بفوزه بجائزة الأوسكار في سن لم يتجاوز فيها التاسعة و العشرين من عمره، و قد تألق النجم برودي في تقديم شخصية العازف البولندي شبيلمان، كما نجح بولانسكي في تصوير معاناة ضحايا الاحتلال النازي، فهو لم يقصر الأمر على توثيق الجرائم بحق اليهود، بل قدم جزء من محاولات البولنديين للثورة على الاحتلال، و الاحتفاء بنضالهم.

من الأشياء الجيدة حول هذا الفيلم تحديدا هو نجاحه في تقديم صورة متوازنة حول وجود يهود خانوا أبناء دينهم و وطنهم، بالمقابل كان هناك ألمان نازيين لم ينسلخوا عن انسانيتهم كليا ً، و ربما هذا ما وضع كتاب شبيلمان في قائمة الكتب الممنوعة في بولندا و الاتحاد السوفياتي، و لاحقاً في إسرائيل إذ اعتُبر من غير المعقول و المنطقي للأسرائيليين أن يدين يهودي بحياته و نجاته من الإبادة لضابط ألماني نازي.

مابين مشاهد طويلة، و أخري قصيرة، و تجنب التركيز على المعارك الحربية،واستخدام الاضاءة والموسيقى قدم بولانسكي فيلم يمس الروح، كما يحفز المشاهد على ادراك تأثير الموسيقى على بعث شعور الأمل و التشبث بالحياة حتى في أحلك و أسوء ما يمكن أن يمر به الانسان. فالموسيقى تحرك انسانية الضابط النازي، و تعطي لشبيلمان طاقة لتحمل البقاء حبيس جدران شقة مخصصة كاحدى المخابئ، ففي مشهد لايُنسي يجلس أمام آلة البيانو ليعزف في الهواء محركا ً اصابعه ،دون أن يلمس البيانو، خوفا ً من لفت انتباه الجيران لوجوده في الشقة المغلقة و المهجورة .

من الأشياء اللافتة لانتباه بالنسبة إلى عند مشاهدتي لهذا الفيلم هو لجوء شبيلمان للعزف في الظروف الصعبة التي تلّم به، ففي هروبه و تنقله في المباني المهدمة، و خطر وجود الجنود النازيين، و معاناته مع الجوع و البرد، يجلس في احد المباني تلك ليعزف على بيانو وهمي مقطوعات كان يقدمها لجمهوره من المستمعين.

كما ان اختيار مقطوعات شوبان الموسيقار البولندي لتكون ضمن ماعزفه شبيلمان بالفيلم، اضفى على الفيلم مسحة من الخصوصية، فمقطوعة  “النكيتورينوز” الفها شوبان عام 1830 م، و هي كانت مهداة لشقيقته، تميزت برقة ممزوجة بمسحة كآبة شاعرية، و قد اعتُبرت من الابتكارات الموسيقية الجديدة لآلة الييانو، تميز شوبان بالقدرة على الارتجال على المسرح، بعيدا عن القواعد الموسيقية، مما جعل جمهوره يسعد بحضور حفلاته، إذ كان بهذه الارتجالات يحرك عواطف المستمعين ويثير لديهم مشاعر الحنين و الشجن ، فأستحق لقب شاعر البيانو .

بعيدا ً عن التصنيف المسبق لمثل هذا النوع من الافلام المرتبطة باإبادة اليهود على أيدي النازيين ، فيلم “عازف البيانو” عمل فني متكامل وناضج من حيث الشكل والمضمون.

عزف “فلاديسلاف شبيلمان” لمقطوعة النكيتورين ، شوبان: