الفيلم الليبي الشظية .. ومحاولة جادة لصناعة سينما محلية ..

00 04
    الفنان الليبى الراحل على العريبى  

غيب الموت الفنان الليبى علي العريبي مساء يوم الجمعة 22 اغسطس 2014 ، بعد تعرضه لوعكة صحية أدخل على إثرها مستشفي الهواري العام في بنغازي.

وقد اشتهر الفنان العريبي بأداء شخصية “الوادي” في المسلسل الليبى الكوميدي الشهير “مكتب مفتوح”، من تأليف الممثل الراحل على العريبى و إخراج الفنان : علي المصراتي والذي أذيعت أولي حلقاته أول عام 1977 ، وقد لاقى المسلسل نجاح و إقبالاً كبيرًا منذ منتصف السبعينات حتى الربع الاول من عقد الثمانينات من القرن الماضي، عندما توقف المسلسل بعد ان دب الخلاف بين الشريكين على العريبى “الوادى” و رجب الفرجانى”حش” .

قدّم العريبي أعمالا فنية عدة على خشبة المسرح والتلفزيون والسينما، لكنه رحمه الله اعتزل الفن قبل عدة سنوات ، بعد ان قدم العديد من الاعمال الفنية فى المسرح و التلفزيون والسينما .

00 01
ملصق فيلم الشظية

عندما قرأت خبر نعى الفنان الليبى القدير على العريبى رحمه الله فى المواقع الليبية ظهرا يوم السبت ، تبادر لذهنى لوهلة الاولى اهم اعمال الفنان الراحل فى السينما ، الا وهو فيلم “الشظية ” احد اهم الاعمال الروائية فى السينما الليبية ، حيث يتناول هذا الفيلم بصورة فنية درامية مشكلة الالغام المدفونة التى خلفتها القوى الغربية المتصارعة خلال الحرب العالمية الثانية على الارض الليبية حيث عكس بوضوح حجم المآسي الناجمة عن انفجارات الألغام الأرضية موقعة ً بضحاياها من البشر والحيوانات حتى بعد وقف الحرب بين الأعداء المتقاتلين.

00 03
الفنان الليبى الراحل الطاهر القبلاوى

كانت القناة الحكومية الوحيدة فى سنوات الثمانينات من القرن الماضى تقوم بعرض فيلم “الشظية” فى فترات ومناسبات كثيرة ، خاصة بعد حصوله على جوائز من مهرجانات عربية وعالمية ، كما نال التقدير والاشادة من قبل الكتاب والنقاد السينمائيين و المخرجين و الفنانيين العرب والاجانب بعد مشاهدتهم للفيلم.

تأتى أهمية هذا الفيلم لاعتماده على عملا أدبيا للروائى الليبى هو “ابراهيم الكونى” ، بالاضافة لاعتبارها المحاولة الاولى لنقل الأدب الليبي إلى الشاشة لأول مرة ، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية القضية المطروحة أى مناقشة مشكلة الألغام التي زرعت إبان الحرب العالمية الثانية، وتأثيرها على حياة البشر والحيوانات .

00 02
الفنانة الليبية المخضرمة كريمان جبر

وقد جاءت فكرة تحويل هذه القصة لعمل مرئى كما يقول كاتب السيناريو “عبدالسلام المدنى” من خلال خطة وضعتها الشركة العامة للخيالة لانتاج اعمال روائية تلاقى النجاح والاقبال الجماهيرى فيقول عن ذلك :”..تم إنتاجه بعد العديد من المحاولات والمطالبة من قبل إدارة الإنتاج التي كانت ترى بان تنفيذ فيلم روائي سيصب في صالح تاريخ الشركة العامة للخيالة ويدعم مكانتها، فقامت بكتابة السيناريو الأدبي والتقطيع للقصة التي تحمل نفس الاسم: الشظية وهو الاسم الحقيقي كما في الشريط ليكون عملا روائيا تسجيليا في بداية الثمانينات وسلمته للتلفزيون الذي علق على السيناريو بأنه عمل سينمائي من اختصاص الشركة العامة للخيالة، وعليه تمت إحالة العمل في ذلك الوقت إلى السيد مدير عام الشركة والذي سلمه بدوره وبدعم منه إلى المخرج الراحل “محمد الفرجاني”الذي تبنى العمل ورحب بالفكرة مع إجراء بعض التعديلات عليه. وتم تنفيذ العمل سنة 1984/85..”.

541783_390464754378271_1334393759_n
المخرج الفرجانى مع الطاقم أثناء التصوير فى الجبل الاخضر

و كان السينمائى الليبى الراحل “محمد على الفرجانى” قد درس السينما في جمهورية مصر العربية حيث نال درجة الماجستير قبل ان يعود إلى ليبيا في الستينات ، حيث عمل في وزارة الثقافة والإرشاد القومي بقسم الإعلام و تحديدا ً بالجريدة المصورة، حاول أن يقوم بأولى محاولاته في الفيلم الروائي في سنة 1967 بعد انجاز بعض الأعمال التسجيلية إلا أن محاولته تلك لتقديم فيلم روائى لم تنجح ، إلا فى العام 1985 فى تقديم فيلم “الشظية” .

وتدور أحداث الفيلم حول لقاء بين “سالم” وهو حطاب يجمع الحطب وأدى الدور الفنان الراحل “على العريبى” ، و”البهلول” وهو قاتل هارب من ثأر وأدى الدور الفنان الراحل “الطاهر القبلاوى”، حيث تجبرهما الظروف على التواجد سوياً في ارض ملىء بالألغام وسط الصحراء، ونتعرف من خلال الحوار على قصة كلاهما إذ كان “سالم” قد فقد “سالمة” زوجته والتى تلعب دورها الفنانة الليبية “كريمان جبر” أثر انفجار لغم أودي بحياتها وبأغنامه ،أما “البهلول” فهو هارب بعد قيامه بقتل عريس حبيبته و ابنة عمه “ريم” التى أدت دورها الفنانة الليبية المعتزلة ” “نجاح عبدالعزيز ” والتى كان يعشقها ولكن والدها عم “البهلول” قام بتزويجها من رجل ميسور الحال ، رافضا ً تزويجها لابن عمها ، فيقوم الراعى “سالم” بأنقاذ “البهلول”من الموت عطشا ً، ثم انقاذه من الموت بلغم، وفى أثناء قضائهم ليلتهم فى مغارة بعد هبوط الظلام ومحاصرة الذئاب لهم ، تزول حالة التوجس والخوف بين الاثنين ، ويروى كل واحد للاخر حكايته ، وفى هذه الأثناء يقرر بعض ابناء قبيلة “سالم” البحث عنه ، بعد تأخره فى العودة للنجع فيقتلون فى حقل الألغام ، وينتهى الفيلم بفشل “سالم” في التخلص من لغم يقضي عليه وعلى “البهلول” .

00 05
ملصق للفيلم يظهر فيه الفنان الكبير الطاهر القبلاوى رحمه الله

بدأ تصوير الفيلم بتاريخ 17 مارس 1984 و أنتهت عمليات التصوير بتاريخ 16 أكتوبر 1984 ، و كان أول عرض له بمهرجــــــــان دمشق السينمائي عام 1985.
أما عن بطولة الفيلم فقد تقاسمها كل من :الفنان الليبى الراحل الطاهر القبائلي ، الراحل علي العريبي ، والفنانة الليبية المخضرمة كريمان جبر ، بالإضافة لمشاركة مجموعة من الفنانيين والفنانات المحليين : علي الورشفاني ، و أنور الطرابلسي ، و رمضان نصيـــر ، و أم السعد علي ، و صالح بوغزيل ، و نجاح عبدالعزيز ، و أحمد باكير ، و عبدالسلام الورفلي ، مدير التصوير محمد ابديرى.

أدى كل من العريبى ، والقبلاوى وجبر أدوارهم باقتدار ، و كان أداء الفنان العريبى رحمه الله فى منتهى التلقائية والجمال لشخصية الحطاب سالم فقد ساعدته انتمائه لقبيلة من بدو برقة فى تقمص هذه الشخصية حتى التصقت فى ذاكرتنا .

كان التصوير فى أماكن طبيعية ، وبكوادر محلية ، ولم تنفذ اى مشاهد داخل استوديوهات مقفلة ، فقد كان المخرج الفرجانى حريص أشد الحرص على تقديم عمل سينمائى قريب للواقع ، ويظهر هذا من خلال تمسكه بتصوير مشاهد المغارة التي‮ ‬كان‮ ‬يحتمي‮ ‬فيها “سالم” “‬علي‮ ‬العريبي‮” ‬و”البهلول‮” أى “‬الطاهر القبائلي‮”‬، وكان بإمكان الفرجانى الاستعاضة عن التصوير عدة ‬ ليالٍ باستعمال مرشحات خاصة للتصوير كى تعطى إيحاء الصورة.

جاء مشهد انفجار اللغم فى أثناء ركض سالمة زوجة سالم لاحقة ً بخرفانها ، من المشاهد المؤثرة فى الفيلم لبشاعة المصير ، كم أن الانفجار كان حقيقى من تنفيذ رجال الشرطة للكشف عن الألغام وتفجيرها.

00 08
مشهد من الفيلم يجمع الزوجان وهما يلعبا السيزة وهى لعبة شعبية شهيرة

أيضا ً حرص المخرج على الفرجانى على اختيار مواقع تعكس جمال الطبيعة فى بلادنا ، فقد اختار شلال درنة لتصوير لقاء عاطفى بين البهلول وريم حينما جاءها متسللا ً منصتا ً لغناء ريم لغناوة علم جميل ظل الكثير من شباب وشابات الثمانينات يرددونها فى مناسبات كثيرة ، ويتبادلها العشاق .
كم أن المخرج لم ينسى ان يقدم توثيق فنى جميل وجذاب لبعض العادات والطقوس فى الفرح الليبى فى بادية برقة فجاءت زفة العروس ورقص الكشك وغناء الشتاوى وميز العرس أى سباق الخيل وتجهيز العروس في‮ ‬جحفة على ظهر الجمل‮ لتضفى واقعية شاعرية‮ بأسلوب سلس ورشيق دون ان تتسبب بترهل فى ايقاع الفيلم .
أما الموسيقى التصويرية للفيلم ففى معظمها من اغانى ليبية شعبية ، او موسيقى من وحى التراث الموسيقى الشعبى المحلى ، فأضفى مسحة جميلة ومبهجة على الفيلم ذو القصة الفاجعة .
وبالرغم من حرص المخرج الفرجانى على التدقيق فى تنفيذ العمل إلا انه فاتته نقطة اساسية فى الفيلم وتتعلق بملابس الاولاد الصغار التى لاتخص اولاد البدو فى برقة ، كذلك اختلاف فى اللهجة بين ابنى العم ريم و البهلول ، فالبهلول يتكلم بلهجة المنطقة الغربية من بلادنا ، وهى تختلف بشكل كبير عن لهجة بادية برقة ، كم أن اختيار اسم البهلول هو من ليس من الاسماء الشائعة فى تسمية الذكور فى بادية برقة ، كان على المخرج فى حينها تنسيق الملابس واللهجة و باقى التفاصيل الاخرى للتجانس مع البيئة التى تدور فيها أحداث الفيلم ، والذى يفترض ان يكون مابين ربوع الجبل الاخضر ، و ربوع هضبة البطنان التى زرعت ألغاما ً فى فترات تبادل المواقع بين قوات المحور والحلفاء فى الحرب العالمية الثانية ، بالاضافة لعدم التناسق بين الحوار وحركة شفاه الممثلين فبعض المشاهد ينقطع الصوت لثوانى بينما يواصل الممثل الحوار دون استدارك لخلل فى الصوت.

00 06
ملصق آخر للفيلم أثناء عرضه بدور السينما فى المدن الليبية

لم تستمر الشركة العامة للخيالة المملوكة للدولة آنذاك فى تنفيذاعمال سينمائية بمستوى نجاح فيلم “الشظية”، إذ شكلت قرارات الدمج والحل و‮ ‬الإلغاء‮ “‬للشركة العامة للخيالة‮” خلال عقد الثمانينات والتسعينات من القرن الماضى حتى ألغاء الشركة ‬فى العام 2003 بعد تراكم الديوان ، شكلت خطوة قاضية على نمو وتطور مشروع صناعة السينما فى ليبيا فى تلك السنوات ، وهذه السلسلة الطويلة من الفشل فى ادارة هذا القطاع المتميز بخصوصيته فى أى مكان فى العالم ،جاءت بعد تطبيق النظام السابق للزحف الثورى على مؤسسات الدولة ، مع تأميم دور العرض العامة او المملوكة لمواطنين ليبيين ، فتشكلت لجنة ثورية لإدارة هذه المؤسسة مع باقى دور العرض العامة والخاصة دون ان يكون للاعضاء اللجنة أى خبرة او دراية بهذا المجال ، فساهموا فى تضخم الكادر الوظيفى بإعداد غير مؤهلة ولا صلة لها بهذه الصناعة ، مع عجز عن تسويق الافلام التسجيلية والروائية القصيرة المنتجة من قبل الشركة بالاضافة لسوء الإدارة جعلها تعجز حتى عن دفع مرتبات العدد الكبير من الموظفين ، مع عدم وجود رؤية واضحة وخطة للانتاج الفنى، هذه الاسباب وغيرها ساهمت فى ادخال السينما الليبية فى حالة غيبوبة لم تستفق منها إلا بعد فبراير 2011 حيث ظهرت مشاريع ومؤسسات تنشط فى هذه الصناعة ، اما انتاجا ً او اخراجا ً او كتابة ، والخ من مهن واطر ترتبط بهذا القطاع ، مما يعطى الأمل فى المستقبل رغم كل الصورة القاتمة فى هذه المرحلة .

مراجع :
– عبدالسلام المدنى ، من العروض المسرحية إلى ظهور سينما وطنية .
– على محمد الفرجانى، قصة الخيالة العربية الليبية .
– بشير محمد عريبي، الفن والمسرح في ليبيا.
– عبد الله محمد اطبيقة، الخيالة في ليبيا.

*الصور من أرشيف السيناريست والباحث الليبى عبدالسلام المدنى، والممثل الراحل على القبلاوى .

مس سراييفو دعوة للحياة ونبذ العنصرية والكراهية ..

Miss_sarajevo2لا أدرى كيف اكتسبت هذا الطبع ..الارتباط بأشياء صغيرة ، او قديمة ربما لا تهم أحد ، او لم تعد صالحة للاستعمال ولكنى مازلت أحتفظ بها ، فى بعض الاحيان هذه الأشياء التى لم اعد استخدمها تحمل ذكرى جميلة ، او كانت ذات تأثير على افكارى واحاسيسى ومشاعرى فى سنوات مضت ، وفى كل مرة ارجع لتقليب فى تلك الأشياء القديمة اجد نفسى استرجع الذكريات و المناسبات والحوادث والاشخاص والاماكن المرتبطة بتلك الأشياء ومن بين الأشياء القديمة التى مازلت احتفظ بها ، صندوق متوسط الحجم ملىء بتسجيلات موسيقية او تمثيليات او برامج قديمة ، او حفلات زفاف لخالاتى واخوالى رغم اننا لم نعد نستخدم اشرطة الكاسيت والفيديو فى زمن أجهزة تشغيل الموسيقى والفيديو الحديثة إلا اننى لا زلت احتفظ بتلك الاشرطة القديمة..

لم افتح ذلك الصندوق منذ 2009 تقريبا ً وكدت انساه لولا بحثى اليوم وسط غرفة التخزين عن كتب قديمة فتعثرت فى الصندوق العتيق، و ماكدت افتحه حتى حضرت الذكريات مصحوبة بالمشاعر والاحاسيس والخواطر ..

عثرت فى الصندوق على شريط كاسيت لواحدة من حفلات لوتشيانو بافاروتى واصدقاؤه كنت قد حصلت عليه كهدية من إيمن شقيقى الكبير فى بدايات الالفية الجديدة احضره لى من احد رحلاته للخارج، كانت هدية جميلة ، شكلت فى حينها مفاجأة كبيرة ، إذ كنت اعشق فن الاوبرا واقضى اوقات اطول فى الاستماع لتسجيلات كبار المغنيين والمغنيات فى هذا النوع من الغناء.

وكان لوتشيانو بافاروتى من نجومى المفضلين فى هذا النوع من الغناء النخبوبى نوعا ما، و اكثر ماكان يشدنى لشخصية المطرب الاوبرالى الكبيربالاضافة لجمال اعماله الاوبرالية ، التزامه تجاه القضايا الانسانية من خلال اداء اعمال غنائية او اقامة حفلات جميلة يذهب ريعها الى ضحايا الحروب و النزاعات والمجاعات ولاماكن الاقل حظ فى العالم ، و ربما لتأثير نشأته كفتى فقير عانى مصاعب الحرب العالمية الثانية .2412409135_small_1حيث ظهر على المسرح مع العديد من نجوم الموسيقى، مثل سيلين ديون ، انريكى ايجليزيوس ، وفريق اكوا، وبراين ادمز، و ايرني غراندي ، وبونو .

غنى بافاروتى لأجل مسلمى البوسنة وماتعرضوا له من ابادات عرقية فى نفس الوقت ، و بكى في سراييفو وهو يحتضن الأطفال الجرحى متألما لحالهم ، و كمراهقة عايشت تلك الحرب من خلال متابعة اخبارها واخبار اصدقائى من البوسنيين لم تسجل ذاكرتى أى اغنية عربية تعكس مأساتهم باستثناء اغنية يتيمة للطفى بوشناق.

من بين اغانى ذلك الشريط اغنية جميلة اسمها (مس سراييفو) أداها لوتشيانو مع المغنى الايرلندى “بونو” عضو فريق يوتو، قاما بأدائها فى العام 97 فى أول حفلة فى سراييفو بعد انتهاء الحرب وقد حرص الاثنان على أدائها فى مابعد فى الكثير من حفلاتهم ، ثم تقديمها فى فيديو جميل يحمل دعوة للفرح والنهوض بالانسان من آثار الحروب المدمرة ، ونبذ العنصرية والكراهية.

الآن امتلك نسخ من اعمال بافاروتى لوحده او مع اصدقاؤه على أسطوانات مدمجة اشتريتها خلال ال/اعوام الماضية او تلقيت بعضها كهدايا من اصدقاء رائعين ، ولكن تبقى تلك الاشرطة لها تأثير على مشاعرى وذاكرتى العاطفية فهى تظل بمثابة ذاكرة صوتية عن حياتى فى تلك السنوات بماكنت احلم وافكر واهتم وابحث واجمع من تسجيلات موسيقية او غنائية او فنية من اى نوع كانت، كما أن التقليب فى أشيائى القديمة يشعرني بمزاج جيد ، إذ تذكرنى بماكنت وبما يجب ان اكون ، وأين اقف ، لهذا تكتسب قيمة خاصة ، كما تصبح للأشياء العتيقة ذاكرة وتاريخ وحكايات طويلة لاتنتهى ، إنما تبدأ بمجرد تأملها واطالة النظر إليها ..

تجربة انسانية على ضفاف نهر لندن ..

MV5BMTQwNDg2OTkyMl5BMl5BanBnXkFtZTcwNzc5NzAxNw@@._V1_SY317_CR12,0,214,317_AL_استمتعت بمشاهدة (نهر لندن) هو فيلم من اخراج الجزائرى ( رشيد بوشارب ) يتناول احداث تفجيرات لندن الانتحارية عام 2005 من زاوية سينمائية وانسانية مختلفة ، فهويقدم لنا السيدة اليزابيث سومرز الانجليزية المسيحية ، وعثمان الإفريقي المسلم الذى يعيش فى فرنسا ، يأتيان الى لندن للبحث عن ابنائهم اللذين يعيشان على مقربة من موقع التفجيرات حيث انقطعت اخبارهما بعد ذلك، فالسيدة اليزابيث سومرز تبحث عن ابنتها (جاين ) ، بينما عثمان يأتى باحثا عن ابنه (على ) .

يثمر السعى المشترك للسيدة سومرز و عثمان عن رابطة صداقة لطيفة ، بعد أن بدأ التعارف بين الاثنين فى ظروف صعبة ، تتصرف فيها السيدة سومرز بطريقة حذرة ومتوترة تجاه اكتشاف العلاقة التى ربطت بين ابنتها جاين و على ابن عثمان الافريقى المسلم ، فعندما قابلت اليزابيث عثمان كانت تشعر بنوع من الخوف دفعها لعدم مصافحته فى اول لقاء بينهما ، وتتبدد الأفكار المسبقة لسومرز عن التأثير السىء لعلى على ابنتها ، فهى اعتقدت بانها اصبحت مسلمة متطرفة تحت تأثير العلاقة القوية التى ربطت (جاين) و(على) ، وذهبت بالام الى حد الاعتقاد بمشاركة ابنتها فى العملية الانتحارية ، ومع تكشف الحقائق حول الهوية الحقيقية للفاعلين ، تبدأ اسوار الشك والريبة والظنون تزول شىء فشىء ، وتكتشف سومرز اشياء مشتركة مع الآخر أى عثمان القادم من ثقافة مختلفة ، فعثمان ترك أسرته حينما كان ابنه في السادسة من عمره، فيما تعيش (جاين) بعيدة عن أمها، بعد مقتل زوج اليزابيث الضابط في البحرية، في حرب فوكلاند عام 1982، الغريب في الأمر هو أن حميمية اللقاء بين شخصيتي الفيلم، استمرت حتى بعد سماع خبر مقتل ابنيهما في أحداث لندن الإرهابية، .

من الاشياء اللافتة للانتباه فى أثناء مشاهدتى للفيلم هو الحوارات القليلة والاكتفاء بالقليل من الموسيقى ،وافساح المجال ان يعيش المتفرج أجواء الصورة ، فالمخرج ركز كاميرته على الوجه الانسانى لابطاله ، عارضا ملامحهم وتعابيرهم بكل ماتحمله من احاسيس خوف وقلق و اضطراب وشك وفرح و طمأنينة ، مشاعر انسانية نعيشها جميعا يوميا ، إذ كنت اشعر بأننى لا اعيش محنة الام اليزابيث و الاب عثمان فقط ، بل كنت اشعر بأنهما يعكسان ماعشناه طوال العام الماضى من لحظات صعبة ، ومامررنا به من محن على المستوى الشخصى او الانسانى العام .

الاجمل فى الفيلم من وجهة نظرى الشخصية هو اكتفاء المخرج بعرض قصة جاين وعلى دون ان يملىء الفيلم بشخصيات واحداث تشتت الذهن وتبعده عن تأمل حياة أولئك الضحايا الممثلين فى اليزابيث و عثمان فكلاهما ضحية لسوء الفهم ، و عدم معرفة شىء عن العالم الخارجى الا بقدر فالام فلاحة تعيش فى جزيرة منعزلة فى بحر المانش قبالة الساحل الفرنسى وتتحدث الفرنسية ولكنها لاتعرف عن لندن عاصمة بلدها شىء ، كذلك عثمان حارس الغابات فى فرنسا لايفهم سرعداء اليزابيث او حساسيتها تجاه فكرة علاقة عاطفية تربط ابنتها بابنه على .

فيلم نهر لندن من انتاج مشترك جزائري فرنسي وبطولة سامي بوعلجية، رشيد زام، صوتيقي كوباتى، براندا بليتين وهو انتاج عام 2008 ، رشح فيلم نهر لندن لسبع جوائز سينمائية، وفاز بثلاث منها شملت اثنتين من جوائز مهرجان برلين السينمائي الدولي، وجائزة من مهرجان بانف التلفزيوني بكندا.

الدكتور عبد الرحمن بدوي: ”سيرة حياتي“ أيام بدوى في ليبيا

index

اكملت قراءة السيرة الذاتية للدكتور عبدالرحمن بدوى المعنون بـ”سيرة حياتى” المكونة من جزئين كبيرين ، الصادرة فى العام 2000 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ماجذبني لقراءة سيرة الدكتور بدوي رحمة الله عليه، الطويلة نسبيا،هي الأيام التي قضاها بدوي في ليبيا. فالدكتور بدوي صاحب مكانة قيمة علمية فكرية رفيعة، وهو يعد من أبرز الباحثين و المفكرين العرب في القرن العشرين، وأغزرهم إنتاجاً، إذ تخطى نتاجه حاجز ال 100 كتاب أوصلها البعض إلى أكثر من ذلك الرقم في اشارة لوجود عدد من كتبه وابحاثه لم يجد طريقه للنشر بعد. و توزعت كتاباته واهتماماته ما بين التأليف والترجمة والتحقيق والإبداع أيضاً، وقد اعتبره البعض أول فيلسوف وجودي مصري منذ شيوع عبارة قالها له طه حسين أثناء مناقشته بحثه حول (الزمن الوجودى) لنيل درجة الدكتوراة الخاصة به في 29 مايو 1944 قائلا: “أشاهد فيلسوفا مصريا للمرة الأولى”.

فإهتمامي كباحثة في التاريخ، التاريخ الليبي المعاصر والحديث، دفعني لقراءة مذكرات الدكتور بدوي في إطار تجميع شهادات من عاصروا مرحلة بناء دولة الإستقلال والتغيرات التي طرأت على المجتمع الليبي خلال تلك الحقبة التي أنتهت بإنقلاب سبتمبر 1969م. كما أن الدكتور حل ضيفا على ليبيا في فترة في غاية الأهمية من تلك الحقبة، من سبتمبر 1967 إلى مايو 1973، فترة إرهاصات الإنقلاب، تأثر الرأي العام الليبي بالمد القومي الناصري وحالة الغضب العام في الشارع العربي عامة بسبب هزيمة 1967، وفترة الإنقلاب و من بعدها بدايات الإستبداد في ليبيا.

ملاحظات بدوي حول تلك المرحلة وجدتها مهمة ومفيدة في مجملها، يعتريها الإسهاب في نواحي لا علاقة لها بالمرحلة، لكن المذكرات لفتت إنتباهي لمسائل هامة، مثل إمتناع بريطانيا عن إنقاذ نظام الملك بالرغم من أنها تمتلك قاعدة كبيرة في شرق البلاد والشلحي استنجد بهم، إسراع القيادة المصرية في دعم الإنقلابيين، وهم حفنة من الضباط صغار الرتب ومجهولين مشيراا إلى زيارة عبد الناصر ليبيا في ديسمبر 1969، بعد أقل من أربعة أشهر من الإنقلاب وبعد أيام من إحباط محاولة آدم الحواز الإنقلاب على القذافي، وتأثير إندفاعات القذافي في مشاريع الوحدة، مع مصر وسوريا والسودان، على عموم الشعب الليبي حيث زرعت الكراهية عند الليبيين ضد أشقائهم العرب وتجلت تلك الكراهية في أعمال العنف ضد المصريين إثر سقوط الطائرة الليبية فوق صحراء سيناء.

ما كتبه عن تأثير الإجراءات والخطوات الإستثنائية، التي أتخذها القذافي للسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد، على عامة الشعب مهم جدا حيث بثت الخوف عند الناس، فكتب عن مشاعر الناس صبيحة إعلان القذافي عن “الثورة الثقافية” يوم 15 أبريل 1973 “استيقظ الناس صباح الإثنين 16 أبريل ليجدوا بلدهم بغير قوانين تحكمها، ولا موظفين مطمئنين في وظائفهم، ولا محاكم تتولى الفصل في منازعاتهم، بل فوضى شاملة ….. قرار لا مثيل له في التاريخ البشري.” وهو ما مكن القذافي من المضي قدما لتأسيس نظام حكم شمولي سيطر على البلد أربعة عقود من الزمان.
بخلاف الإسهاب في بعض النواحي، بدوي لم يحسن تناول بعض القضايا بموضوعية و ومنهجية علمية، ربما بسبب طبيعة شخصيته الحادة، وربما بسبب المعاملة السيئة التي تم معاملته بها من طرف شرطة النظام الإنقلابي، حيث تم إعتقاله بدون إبداء أي أسباب لمدة 17 يوما، مباشرة بعد الإعلان عن “الثورة الثقافية”، وأفرج عنه يوم 5 مايو 1973م وأعطوه مهلة 72 ساعة لمغادرة ليبيا.
كان بدوي واسع الثقافة والعلم، وأكثرإلماماً بالتراث العربي والغربي على السواء، بالاضافة الى اجادة الدكتور بدوي للغات عدة منها الفرنسية والألمانية والإيطالية والأسبانية واليونانية واللاتينية بالإضافة إلى اللغة العربية،رحل عن دنيانا عن عمر يناهز 85 عام في القاهرة بعد عودته عام 2002من منفاه الاختياري في باريس التي اختار الاقامة بها.

******

تصل عدد صفحات الكتاب إلى 765 صفحة، حيث لا يحتوى على مقدمة، ولا خاتمة، ولا فهارس هجائية للأعلام أو للألفاظ، ولا حتى قائمة محتويات، ممايرجح احتمال أن الدكتور عبدالرحمن بدويكان يفكر في كتابة أجزاء أخرى لاحقة للسيرة. الكثير من أجزاء الكتاب كُتبت على فترات متقطعة، حيث يعكس جانب كبيرمماورد في المجلد الاول قيام الدكتور بدوي بـتأليفه قبل حوالي ثلاثة عقود من تاريخ النشر، كما يسود الكتاب خلل كبير في بنائه الفني، فهناك حشد من الاستطرادات الطويلة المملة التي لاطائل من ورائها. فهو يتناول مواضيع خارج سياق السيرة التي يفترض ان تتمحورحول حياته الشخصية وانجازاته العلمية. فهو إن وصل إلى ميونيخ ليقيم بها قرابة الشهرين، أسهب في الحديث عن الأهمية السياسية والعلمية والفنية للمدينة. وإن هو زار بيروجيا يحدثنا عن موقعها الجغرافي وتاريخها السياسي ويزودنا بقائمة بعناوين المحاضرات العامة التي حضرها، وبصفحة عن موسم الموسيقى المقدسة فيها، ثم يزور البندقية ليوم او اثنين عام 1946 فيرى ضرورة لأن يذكر أهم مبانيها وكنائسها، ومن اشتهر من أدبائها ومفكريها وعلمائها وأشهر مكتباتها وطوائف رهبانها، ولايكتفي بذلك بل يسرد علينا في سبعا وثلاثين صفحة العطلات التي قضاها في هولندا.

كما يسرد الأحوال السياسية والاقتصادية في ليبيا وقت اقامة الدكتور بدوي فيها، و يستعرض مختلف القبائل واللهجات والطرق الصوفية وأشهر أعلامها، ويتطرق للتركيبة السكانية والقبائل واللهجات ويتحدث عن اليهود في ليبيا بشيء من التفصيل وعن صلاتهم بالحركة الصهيونية، كما أسهب في عرض تاريخي للمذهب الإباضي وأعلامه، وتحدث عن الطرق الصوفية وعن دراساته لتاريخ الفلسفة في ليبيا وإسهاماته في اثنتين وستين صفحة. هنا ربما يرى البعض بأن الاستطرادات المملة خارج السياق تقدم معلومات مفيدة عن التاريخ والمجتمع في ليبيا خصوصا مع شح الدراسات والابحاث العربية حول ليبيا في تلك الفترة التاريخية، لكن القاريء للسيرة الذاتية سيصُدم بما دونه الدكتور عبدالرحمن بدوي عن ايامه في ليبيا، فهو يصم شعب بأكمله بالعقم ويراها بلاد لاقيمة لها، ويتسرع في اصدار الاحكام، وتكوين آراءه عن البلد منذ لحظة وصوله لبنغازي حيث سيعمل ويقيم لمدة ستة أعوام،ويساهم في إثراء المكتبة الليبية بمؤلفات قيمة، مع جهوده في التدريس بقسم الفلسفة بجامعة بنغازي .

وربما مادفعه لهذا الحكم القاسي ماتعرض له من معاملة مهينة على أيدي رجال الامن حيث ألقي القبض عليه في ابريل 1973 ضمن حملات المداهمة التي طالت الجميع حينها إثر إعلان القذافيعن ثورته الثقافية في ليبيا، إذ تم اعتقال الدكتور بدوي لمدة سبعة عشر يوما،و يرجح هو ان سبب الاعتقال نتيجة لتهمة لفقت له من قبل زملائه العرب. طبعاً شخص حاد الطباع مثله ليس بالغريب أن يتعرض للكيد من أقرب الناس إليه،أو قد يكون أحد الطلبة الفاشلين في الكلية ممن انضموا لركب الانقلاب وتحولوا لمخبرين على اعضاء هيئة تدريس جامعة بنغازي وطلابها، هو من كتب ضده تقرير كيدي. كان معروفا عن الدكتور عبدالرحمن بدوي بأنه ذو مزاج حاد عنيف في الكره او الحب حيث يصفه الدكتور علي فهمي خشيم، احد تلامذته في الجامعة الليبية، بأنه : ” شخص مشحوناً بالغضب، حاداً في نقده وانتقاده، متبرما ً بكل شيء، شديد الظلم لمن عاصر من شخصيات *”.

                                                             ***
يقرر الدكتور عبدالرحمن بدوي التقدم للعمل بكلية الآداب بالجامعة الليبية ببنغازي بسبب ضيقه من المناخ العام بمصر في تلك المرحلة من الحكم القومي تحت قيادة عبدالناصر.

akabti210314p2
الطلب الذي تقدم به د. بدوي الى الجامعه الليبيه

و تنعكس تقلبات المزاج الحاد للدكتور بدويمنذ لحظة وصوله الى مدينة بنغازي في سبتمبر 1967، على الانطباعات الاولى حول بنغازي، فهو يصف الفندق الذي نزل فيه بشارع الاستقلال بالفندق الضيق الكئيب، مبديا ريبته وظنونه تجاه سكان المدينة من الساعات الأولى لوصوله إليها فهو لايتوانى عن اتهام موظف الفندق بالخداع لاقتراح الموظف على بدوي ان يستقل تاكسي للوصول الى الجامعة التي تقع على بعد أمتار من الفندق .

لكنه سرعان ما يعود للثناء على مدير الجامعة الليبية آنذاك “عبدالمولى دغمان” إذ يقول عنه :” ..كان أول مدير ليبي كفء، مختص يتولى هذا المنصب بعد ان تولاه قبل ذلك أشخاص لا شأن لهم بالعلم ولا بالجامعة، وقد مسح هذا اللقاء الاول الجميل بالأستاذ دوغمان الانطباع السيئ الذي بدأ يساورني”، حيث أشعره بالاطمئنان وغمره بالتقدير والاحترام طوال العامين الأولين من أعوام اقامته الستة في ليبيا اللذين كانا بحسب مادونه في سيرته بمثابة “.. الفترة المضيئة الخصبة في مقامي هناك أما السنوات الأربع التالية (من سبتمبر 1969 حتى أوائل مايو 1973) فكانت فترة قلق وتبرم بالمقام هناك وتربص متلهف للافلات من ليبيا، لكن لم تسنح لي فرصة في دولة أخرى، فاضطررت الى مواصلة العمل هناك كارها، لأني كنت عازما على عدم العودة الى مصر..”.

في الصفحات الخاصة بليبيا يقدم خلفية تاريخية مكثفة عن الأحوال السياسية وظهور الحركة السنوسية في نهايات القرن التاسع عشر، مشيرا ً للوضع الاقتصادي للبلد قبل وبعد اكتشاف النفط، ولاينسى ان يتناول القبائل ودورها في السلطة التي يقسمها كالتالي:
1)الملك وحاشيته . 2) زعماء القبائل 3) النفوذ البريطاني 4) النفوذ الأمريكي .
ويتناول بشكل مكثف رؤساء الوزراء وانتماءاتهم القبلية ودورها في وصولهم لهذا المنصب، ويستعرض بشكل سريع صلاحيات الملك الحاكم الفعلي المطلق رغم الصلاحيات الممنوحة نظريا للملك في ضوء الدستورالليبي أنذاك.

ليمر بعدها على سكان ليبيا والعناصر الاساسية في التركيبة السكانية،ولا يغفل حتى تعداد الكاثوليك والبروتستنت واليهود حسب احصاء صادر عام 1966 .

كما يستعرض وضع اليهود الليبيين في ظل الانظمة الحاكمة المتعاقبة على ليبيا، و يتناول تفاصيل مركزة حول العلاقات بين الليبيين سواء من المسلمين او اليهود، وتأثير قيام اسرائيل باحتلال فلسطين على هذه العلاقات، وتحولها الى صدامات وسعي لاخراج اليهود من البلد.

ليأتي بعدها لتناول المذاهب الإسلامية في ليبيا منها: الإباضية،التي يسرد لنا بشكل مكثف تاريخ ظهور هذا المذهب في ليبيا، وأبرز العلماء الاباضيين من المسلمين الوافدين على ليبيا لنشر هذا المذهب، بالاضافة إلى تناول العلاقة بين هذا المذهب وتاريخ المنطقة في العصور الوسطى الاسلامية. ويرى الدكتور بدوي بعد دراسة متفحصة لهذا المذهب بإنه الأقرب الى مذهب أهل السنة، بل ويصفهم بأنهم أهل اعتدال، ويحاول تعليل أسباب انتشار هذا المذهب بين البربر لمساواته بين المسلمين كافة في الترشح للخلافة،في حين تقول باقي فرق الاسلام أن الخلافة لاتجوز إلا لمن كان من هو من قبيلة قريش العربية، لهذا فطبيعي، من وجهة نظر الدكتور بدوي، أن يرحب البربر بمذهب يفتح أمامهم فرصة الترشح لخلافة المسلمين.

ويواصل الدكتور عبدالرحمن بدوي تناول النشاط الفكرى والسياسي لإباضية ليبيا، يتناول نشاط أبرز واشهر الاسر البربرية وهي أسرة الباروني ويستعرض بعض الاسماء كسليمان وأبوه عبدالله كشعراء وعلماء فقه ولغة، بالاضافة لتناوله لشخصية من بربر جبل نفوسة هو الدكتور عمر النامي إذ كان معجبا ايما اعجاب بالنشاط العلميوالفكري للدكتور النامي.

كما يتطرق لشخصيات صوفية كالسيد عبدالسلام الاسمر و أحمد الزروق،يسهب في تناول الطرق الصوفية في ليبيا كالشاذلية وباقي الطرق الأخرى على رأسها من حيث السلطة وسعة الانتشار :الطريقة السنوسية. فيشير الى ظهور ونشأة هذه الطريقة وكيفية انتشارها في ليبيا، وعن اهم ملامح مذهب السنوسية فهو يستغرب من “امتزاج الوهابية مع التصوف السنوسي”، رغم إقرار محمد بن عليالسنوسي بإنه على مذهب المالكية، ويتناول بدوي جهود السنوسية في التصدي للاستعمار الاوربيفي وسط افريقيا،بالدخول في معارك وحروب تمتد حتى وقوع ليبيا تحت الاستعمار الايطالي. ويشرح الدكتور بدوي عن سبب فقدان الطريقة السنوسية لطابعها الحربى بعد اعلان استقلال ليبيا، إذ يذكر قيام السيد ادريس السنوسي بادماج المجاهدين في الجيش الليبى الموحد، ويفسر عدم حدوث أى مقاومة ضد انقلابيو سبتمبر 1969، فلو استمر المجاهدون على الولاء لزواياهم لقُضي على هذا الانقلاب فور وقوعه، لارتباط الزوايا بالسيد ادريس رئيس الطريقة السنوسية آنذاك .

ويرى الدكتور عبدالرحمن مبالغات بعض المستشرقين والعلماء والمؤرخين حول انتشار هذه الطريقة ووقوتها وتأثيرها، ويحاول ترجيح أسباب إنتشار هذه الطريقة الصوفية في مناطق كثيرة من افريقيا وباقي أنحاء العالم الاسلامي .

كما لايغفل عن تناول اللغات واللهجات، فيشيرلوجود لغتان مستقلتان هما:البربرية و العربية، ويبديبدوي دهشته من بقاء اللغة البربرية حية رغم وجودها في محيط عربي خالص، وقد حاول إيجاد تفسيرات لهذا الجانب. كما اشار الى تقارب لهجة أهل برقة في الشرق من اللهجة المصرية،في حين كانت لهجة أهل طرابلس في الغرب اقرب للهجة التونسية. ورغم محاولته لعقد مقارنات بين اللهجة المصرية و لهجة أهل بنغازي إلا أنه لم ينجح في فهم وتفسير كلمات وأشعار من بادية برقة، اغاني العلم الشعبية، كما لاينسى ان يشير الى تأثير الايطالية والتركية واستعمالاتهافي تلك الفترة من اقامتهم بليبيا.
Untitled3ثم يخصص بعدها جزء من السيرة لتناول تركيبة السكان في بنغازي فيتناول بشكل سريع ومختصر أبرز الأسر البنغازية واصولها القبلية، ليشير للصفات الجسمانية لسكان المدينة، كما يشرح احوال المدينة من النواحي الاقتصادية وأساليب حياة السكان، ونوعية الحياة المتوفرة أنذاك .

بعد تلك المقدمة المسهبة حول الاوضاع العامة لليبيا،يخصص الدكتور بدوي جزء كبير من ذكرياته للحديث حول عمله في الجامعة الليبية كاستاذ، ثم رئيس لقسم الفلسفة من سبتمبر 1969 الى مايو 1973، درس خلالها طلبته المنطق والفلسفة الحديثة والمعاصرة ومناهج البحث العلمي والتصوف وعلم الكلام وفلاسفة الاسلام.
ويتناول التخصصات وتوزيع الكليات و النظام الأساسى للدراسة بالجامعة، وعن جنسيات أعضاء هيئة التدريس،كما يذكر الدكتور عبدالرحمن دوره في إثراء مكتبة الجامعة التي لم تكن تتجاوز الكتب فيها خمسة آلاف كتاب وقت وصوله للعمل بالجامعة، فعمل بمعاونة مدير الجامعة على تحويلها الى مكتبة جامعية حديثة تحتوي على اكثر من ثلاثين ألفا من الكتب الرئيسية والمراجع ودوائر المعارف، ويقول عن هذا الجانب :” .. لما وصلت في سبتمبر سنة 1967 وجدت مكتبة الجامعة فقيرة جدا ً في الكتب الجيدة والمراجع لكن بفضل معاونة مدير الجامعة أنذاك،عبد المولى دغمان، استطعت ان أجعل المكتبة تستورد عشرات الآلاف من الكتب الممتازة والمراجع الأساسية ودوائر المعارف، خصوصا في الفلسفة والأدب اليونانيواللاتيني والآداب الأوربية الحديثة وكل ما أمكن الحصول عليه من دراسات المستشرقين في الموضوعات العربية والإسلامية . وهكذا يحق لى أن افخر بأنني صاحب الفضل الأكبر في جعل مكتبة الجامعة الليبية تنتقل من حوالي خمسة آلاف كتاب في العلوم الأنسانية إلى حوالي ثلاثين ألف لما ان غادرت ليبيا يوم الثامن من مايو من عام 1973..”.

هذا إلى جانب قيام بدويباحياء مجلة (كلية الاداب) السنوية المتوقفة بعد صدور عدد واحد منها منذ عشر سنوات، فأشرف مع الدكتور مختار بوروعلى اصدار عدد لعام 1967 وعدد ثانى لعام 1968، حيث استكتب فيهما باحثين غربيين بارزين على رأسهم “ارنولد توينبى” المؤرخ البريطاني الشهير، و” فرنشيسكو جبرييلى ” المستشرق الإيطالي، كما كتب بدوي في العددين بحثين متميزين عن “الفلسفة القورينائية الليبية” و”ليبيا في مؤلفات ارسطو”.بدوى فى الجامعة الليبية

كما شارك في إلقاء المحاضرات العامة : الأولى في ديسمبر عام 1967 بعنوان :”تأملات في الحضارة العربية “، والثانية في مارس عام 1971 بمناسبة مرور خمسة عشر عاما ً على إنشاء الجامعة الليبية، وعنوانها: “فكرة الجامعة ورسالتها” ضاع نص كلتيهما من ضمن ما استولت عليه شرطة بنغازي من كتب بدوي عند مداهمة بيته في ابريل من عام 1973.

كما يخصص الدكتور بدوي جزء ليعرض لنا مؤلفاته في تاريخ الفلسفة في ليبيا حيث يقول:”لما كانت برقة إبان الحكم اليوناني من المراكز البارزة للفكر اليوناني، فقد رأيت واجبا ً على أن ادرس تاريخ الفلسفة في ليبيا في العصرين اليوناني والروماني..”، ويتناول في عرض مكثف مجىء الاغريق الى شرق ليبيا والأسباب وراء هذه الهجرة، ويستعرض تاريخ القبائل الليبية في تلك الفترة، ثم التاريخ السياسي للمدن الاغريقية منذ حكم أسرة باتوس حتى انتقال الاقليم لحكم البطالمة بمصر، وينتهي السرد بالفتح الاسلامي لبرقة، معرجا ً على أحداث الثورة اليهودية في الاقليم في العصر الروماني، ولايكتفي بهذا الحد من تاريخ الاقليم إذ يستطرد في عرض أهم الشخصيات الثقافية والفلسفية التي تنتمي إلى قورينا، متناولا فترة المسيحية في ليبيا في عرض مركز حول العلاقة بين الاسكندرية و قورينا وباقي مدن الاقليم .

Untitled33

وبعدها يستعرض بدوي أهل العلم في طرابلس وبرقة مستعرضا لأهم الاعلام وإنتاجهم الأدبي الذي يراه هزيلا لايناسب التاريخ الطويل للاسلام في ليبيا فهو يختم حديثه بالقول أن ليبيا منذ الفتح الإسلامي وحتى العصر الحديث لم تشهد نشاطاً علمياً يذكر، بل هي بلد عقيم، حسب رأيه، حيث حاول تعليل هذا الشح في الانتاج العلمي والأدبي أسباب عديدة، محاولا ً ربط الماضي بالحاضر في الجزء الخاص الأحوال العلمية في العصر الحاضر أي وقت وصوله الى ليبيا عام 1967، ناسيا أن البلد لم يكد يعرف الاستقرار والانتعاش بعد استعمار وحشي، و حربين عالميتين دارت رحاهما على أرضه فدمرت كل شيء، وتسببت في خفض عدد السكان الى أقل من مليون نسمة ، هذا وقد ظهرت دراسات وابحاث حديثة فندت رأيه المبنى على انفعال وقتى ، ونقص فى الاطلاع على المصادر والمراجع حول النشاط الثقافى والفكرى فى ليبيا فى العصر الاسلامى.

فالمقارنة بين ليبيا في العصر الاغريقي او حتى الروماني لاتتناسب مع ليبيا في العصر الحديث بعد حصولها على استقلالها، لاختلاف الاحوال السياسية و الاقتصادية في كلا العصرين.  مع الاسف خرج الدكتور بدوي عن الموضوعية والرصانة العلمية عند تناوله للمناخ العلمي والثقافي للبلد في تلك الفترة أي نهاية الستينات، وربما ماتعرض له من اعتقال ومصادرة كتب واضاعة أوراقه وابقائه في السجن أكثر من اسبوعين، حرك في أعماقه نوازع الغضب المغلف بالتجني المعروف عن شخصية الدكتور بدوي، فكتب تقييم قاسي لتجربة الشاعر الليبى أحمد رفيق المهدوي دون مراعاة لفروق وظروف بلد كليبيا عن بلده مصر يحاول سكانه إعادة بناء كل شيء من النظام السياسي وحتى انعاش الحياة الثقافية و إحياء هوية وطنية من خلال الأعمال الأدبية، والشخصيات العامة كرفيق، فيقول في سيرته :”.. كيما اعرف قيمة شعره. واذا بي لا أجد فيه الا قصائد ركيكة النسج، مبتذلة العبارة، تافهة المعاني. انه شاعر في الطبقة الدنيا من الشعر. فواعجبا كيف اشادوا به ومجدوه حتى كان بعضهم يقول عنه انه «احمد شوقي ليبيا» وهذا امتهان لاسم احمد شوقي لم يعرف مثله في اي مكان. وقد يقال ان القوم لا يعرفون شيئا عن احمد شوقي غير انه امير الشعراء، وأحمد رفيق هذا امير شعرائهم، فهو اذن احمد شوقيهم”.

00 04

ولاينسى تخصيص بضع صفحات لتناول موضوع الشخصية الليبية الذي طرحه رئيس الوزراء عبدالحميد البكوش (1933-2007) للمرة الأولى للنقاش العلنيفيعام 1967 ، ربما مدفوع بمخاوف من تنامي المد القومي الناصري، وتنامي حملات التشويه والمزايدات في إذاعة صوت العرب،التي كانت تُسمع على نطاق واسع ولها جاذبية كبيرة عند الغالبية العظمى من الشعب الليبي،ممادفع البكوش لطرح هذه القضية محاولا خلق انتماء وطني عميق لدى الليبيين، ونجد للدكتور بدوي تفسير يبتعد عن المنطق والعقلانية. فهو يرى في هذه الدعوة مجرد تقليد اعمى للرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، باعتبار البكوش من أصول تونسية بحسب زعم الدكتور بدوي .

بعد ذلك يسرد لنا الدكتور بدوي من الصفحة 168 حتى الصفحة 222 تفاصيل عن عطلات شتوية وصيفية قضاها مابين عامي 1968 و 1969 في باريس و روما ومدريد، مليء بالكثير من المعلومات المسهبة حول التاريخ السياسي و الحالة الاقتصادية لتلك المدن وبلدانها، مستعرضا الاوضاع السياسية حينها، مع الكثير من التفاصيل المفرطة في طولها حول العمارة والفنون بكافة أنواعها في تلك المدن، حتى ينسى القارىء حديثه عن ليبيا، ولايتذكر بإن الدكتور بدوي مازال يسرد لحياته في ليبيا في أواخر الستينات .
وتحت عنوان العودة إلى ليبيا يتناول بدوي الانقلاب وأبرز المحطات في تلك المرحلة التي عاصرها بليبيا. فهو يتطرق لمحاولة آدم حواز الانقلابية في ديسمبر عام 1969، و التأييد القوي للقيادة السياسية المصرية لانقلاب 1969،والذي تمثل في قيام جمال عبدالناصر بزيارة بنغازيفي ديسمبر من عام 1969 أى بعد مرور اربع اشهر من انقلاب الضباط المغمورين بالجيش الليبي أنذاك .

ويطرح بدوي تساؤل مهم حول موقف بريطانيا من الانقلاب رغم وجود قاعدة عسكرية في”قاعدة العدم” شرق برقة،فمع وجود الملك ادريس خارج البلاد في حينها واستنجاد الشلحي ببريطانيا للاطاحة بالانقلاب، إلا أنها اعتصمت بالحياد التام أمام هذه الأحداث، ممايجعل الدكتور بدوي يرغب في الحصول على تفسير مقنع من هذا الموقف لبريطانيا مع احد حلفائها بالمنطقة.
ويستعرض الدكتور عبدالرحمن بشكل مكثف المشهد العام في البلد في تلك المرحلة، إذ يشير “قانون حماية الثورة” والذي بموجبه يحكم بالاعدام على كل من يقاوم الثورة بالسجن، وبالسجن على كل من ينتقد الثورة او يشترك في مظاهرة او اضراب موجهين ضدها.00 06

ووسط هذا المناخ الخانق الذي ذكره بالمناخ السائد في مصر في تلك الفترة والذي كان من اسباب تركه لبلده، سافر بدوي الى الولايات المتحدة الامريكية في رحلة علمية تلبية لدعوة لحضور مؤتمر للفلسفة الإسلامية وكعادته يملأ الصفحات التالية بسرد الكثير من المعلومات المفرطة في اسهابها حول تاريخ واحوال البلد ولايترك جانب لايتناوله في سرد مكثف يجعلني اعجز عن متابعة التركيز حول ذكرياته عن ليبيا حتى يصل الى العودة لبنغازي حيث يصف تحت عنوان وانزاح الكابوس وقع خبر وفاة عبدالناصر عليه فور سماعه في بيته ببنغازيفي سبتمبر من عام 1970.

ويتناول الدكتور بدوي قضية الوحدة بين مصر وسوريا والسودان وليبيا، ثم تأثيرها على علاقات الجيران بعضهم ببعض. فيسرد الدكتور عبدالرحمن لحوادث العنف وأجواء الكره التي سادت مناخ بنغازيفي بدايات السبعينات بسبب هذه الاجراءات من قبل القذافيالذي لم يستفتيالشعب الليبيحول الوحدة ومايترتب عليها من ارتباطات والتزامات، فيذكر الدكتور بدوي تعرض عدد من المصريين للضرب على أيدي الليبيين بعد حادثة اسقاط الطائرة الليبية فوق سيناء من قبل طائرات حربية صهيونية. وبعد ذلك يتحدث الدكتور عن مشاريع الوحدة بين الدول العربية وعن تصرفات قائد الانقلاب تجاه مصر، مستطرد حول ماشاب العلاقات المصرية – الليبية في عهد السادات من فتور وحذر وترقب انتهي بصدام عسكري افتعله القذافي و سعى له.

ويختم الدكتور بدوي بسرده لفترة اقامته في ليبيا بعنوان ثورة ثقافية يعرض بشكل مختصر ومكثف لخطة القذافي في الاستيلاء على البلد وتحطيم مؤسسات الدولة، من خلال ماعُرف باعلان زوارة أو الثورة الثقافية مساء 15 أبريل من العام 1973 ليصف بدقة ماحدث من زلزال هز استقرار البلد حتى يومنا هذا .
00 08

ولم تمضى ثلاثة أيام على الاعلان حتى يطرق ضابط شرطة بملابس مدينة باب شقة الدكتور بدوي، وينتهي بتفتيش بيته و مصادرة بعض كتبه وأوراقه، والقاء القبض عليه وارساله الى سجن الكويفية الذي حول جزء منه لمعتقل سياسي مؤقت في تلك الفترة، ليظل في السجن لمدة سبعة عشر يوما وساعتين و24 دقيقة كما حسبها في مذكراته وهو يذكر كيف تحفظ ضابط المباحث العامة على سائر ما وجده من كتب ارسطو لانه ظنه بحسب التعليمات انه سارتر المتهم ككاتب وجودي خطر على اذهان الطلبة،و يقول بدوي: “..واحترت في تفسير ذلك وقلت في نفسي: وما ذنب ارسطو وما شأنه بما يجري في ليبيا من احداث..”، وظل الدكتور بدوي يطرح السؤال حول سبب اعتقاله على كل من قابلهم من مسئولين ليبيين ولكنه فشل في العثور على اجابة محددة وواضحة .
تم اطلاق سراحه في 5 مايو 1973 وطلب منه مغادرة البلاد في ظرف 72 ساعة، حيث غادر ليبيا عائدا ً للقاهرة .

***
قائمة مؤلفات الدكتور عبدالرحمن بدوي حول ليبيا:
– المدرسة القورينائية (صدرعام1969).
– الفلسفة القورينائية أو مذهب اللذة (صدرعام 1969).
– تاريخ الفلسفة في ليبيا(الجزء1) كرنيادس القورينائى (صدر عام 1971).
– تاريخ الفلسفة في ليبيا(الجزء2) سونسيوس القورينائى (صدرعام1971).

—————

*د.على فهمى خشيم ، هذا ماحدث “سيرة ذاتية” ، طرابلس ، منشورات دار الكتاب الجديد المتحدة ، 2004.

**الصفحات الخاصة بليبيا من ص103-248 من كتاب سيرة حياتى ، عبدالرحمن بدوى ، بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000، جزئين.